البوصلة النفسية تتكون من محددات وتعريفات يضعها كل فرد لنفسه، والتي تشكل في النهاية الإطار الذي يوجه سلوكه ورؤيته للحياة وحتى الأشخاص الذين يبدون مشتتين لديهم بوصلة نفسية تحكم تصرفاتهم، ولكن قد تكون هذه البوصلة مضطربة بسبب خلل في التعريفات والمبادئ التي يعتمدون عليها.
إن البوصلة النفسية تتألف من مجموعة من التصورات العليا والاعتقادات الكلية التي تشكل إطارًا للحياة النفسية للفرد مع التأكيد على أهمية الدين والروحانية كجزء لا يتجزأ من هذه البوصلة، وأن الروحانية بدون دين هي مفهوم مضلل.
هنالك خمس محددات أساسية تشكل البوصلة النفسية، وهي:
- التصورات العليا والإيمان: كيف يفيد الإيمان والعبادة في بناء النفس؟ وهو قائم على الاعتناء بالروح وذلك من خلال الدين وعلاقة الإنسان بربه بطريقة صحية ومفهومة
- التعامل مع النفس والصفات النفسية الأساسية: أهم الصفات النفسية التي يجب تطويرها و العمل عليها
- العلاقات: كيف تؤثر العلاقات على نفسي؟ الموازنة بين الحقوق والواجبات
- طبيعة العيش ونمط الحياة: كيف أفهم الدنيا والسعادة والنجاح فهمًا صحيحًا؟
- التعامل مع الأزمات والشدائد: التركيز بشكل خاص على الجانب الروحي، حيث أن للروح قيمة كبيرة في حياة الفرد وأن الدين يساهم في تقوية البناء النفسي ويساعد الفرد على التعامل مع الأزمات.
التصورات العليا والإيمان:
البوصلة النفسية يجب أن تكون صحيحة ودقيقة في تحديد المعايير والتعريفات للوصول إلى الهدف، والدين يعزز الصحة النفسية ويساعد في التعافي من الأمراض النفسية وأن الإنسان ليس مجرد مادة بل يتكون من الروح والقلب والعقل والنفس، وهذه الأبعاد مجتمعة تشكل الحياة الإنسانية.
هنالك عدة أنواع من العلاقات التي يمكن أن يكونها الناس مع الله، بعض الناس يعبدون الله من أجل المطالب الدنيوية والفوائد الشخصية، مشبهين علاقتهم بالله بعلاقة موظف براتبه لكن العبادة يجب أن تكون لله وحده لتحسين الآخرة وليس فقط لتحقيق المنافع الدنيوية، الإيمان السطحي يركز فقط على الفوائد المادية ولابد من الإيمان العميق الذي يشمل العبودية لله والتي تجلب الفوائد النفسية والروحانية.
هناك أشخاصًا لا يضعون الدين ضمن أولوياتهم اليومية ولا يستخدمونه كمحدد رئيسي لتوجهاتهم الحياتية، مما يؤدي إلى نقص في التوازن النفسي والروحي، ولذلك من المهم العناية بالمشاعر الإيمانية مثل محبة الله والخشية منه والطمأنينة و ليس فقط المشاعر المادية مثل الفرح والحزن.
التعامل مع النفس والصفات النفسية الأساسية:
البوصلة النفسية والتربية الذاتية: يجب أن يكون الهدف هو بناء شخصية قوية ومتوازنة، لا شخصية ضعيفة ومدللة، ولا يجب إتباع الاتجاهات الحديثة في التنمية البشرية وعلم النفس الغربي التي تركز على رعاية الذات بشكل مفرط مما يؤدي إلى تدليل النفس وإضعافها، بل من المهم التركيز على أهمية الرفق والتوازن في التربية وفقًا للمبادئ الإسلامية، حيث أن الرفق هو أحد الأركان الأساسية في الإسلام وعلم النفس الإسلامي.
العلاقة بين الإنسان وخالقه: بعض الناس يعبدون الله طلبًا للمنافع الدنيوية فقط، وتكون مشابهة للذي يعمل بأجر كالموظف وصاحب العمل، لكن عبادة الله تعالى هي لتحسين الآخرة أولا وليس الدنيا، وأن الفوائد الدنيوية إذا جاءت فهي بفضل الله وليست الهدف الأساسي من العبادة.
الثقة بالنفس مقابل الثقة بالله: تركز الاتجاهات الحديثة في التربية وعلم النفس على الذات وتقديرها ورعايتها، بينما المنهج الإسلامي يُركز على تزكية النفس ومجاهدتها والثقة بالله، و هذه الاتجاهات الحديثة قد تؤدي إلى تربية جيل هش وضعيف لا يستطيع مواجهة تحديات الحياة ومن المقلق حالياً انجذاب الشباب إلى دورات تنمية الذات التي تُقدم حلولاً سريعة وسهلة دون جهد حقيقي، و هذه الدورات لا تُقدم حلولاً عميقة ومستدامة و لذلك من المهم التركيز على العمل الجاد من أجل تحسين النفس وتطوير الصفات الإيجابية مثل الصبر والتحمل والرضا والشكر والقناعة والأمل والتفاؤل.
إن البناء النفسي القوي يتطلب جهدًا وعملاً، والحلول السريعة والسهلة ليست فعّالة ولا تُسهم في تطوير الذات بشكل حقيقي، كما أن نمط الحياة المعاصر لا يساعد على تنمية صفة الصبر والتحمل في الناس سواء كانوا رجالاً أو نساءً، حيث أن السرعة في تلبية الطلبات والإعلام البصري وطغيان المتعة وحياة الرفاهية كلها تضعف الصبر وتجعل الناس أقل قدرة على تحمل المشقة والألم ولذلك الشباب و الشابات الذين نشأوا في بيئات مرفهة يجدون صعوبة في التكيف مع مسؤوليات الحياة الزوجية والأمومة.
كذلك الإفراط في استخدام التكنولوجيا مثل الهواتف المحمولة يضعف القدرة على الصبر والتأمل والخلوة، وكذلك الرفاهية والكسل يضعفان الجدية والانضباط، ولكن لا يجب الذهاب إلى الطرف الآخر وجعل الحياة عسكرية ومحرومة من النعم.
بشكل عام يمكن القول إن الفكر المادي في علم النفس والحياة يُعامل الإنسان كمادة بلا روح، ونحن نعلم أن الإنسان ليس مجرد مادة وأن الجانب الروحي والإيماني مهم في التعامل مع النفس ويتطلب جهدًا وصبرًا، وليس الدوران في حركة رأسمالية مفرغة من الحصول على المال و صرفه على اللذة و المتعة، و كذلك سقف التوقعات المنحرف و الغير منطقي لعلاقة مثل الزواج و التي من المفترض أن تكون علاقة لها أبعاد إنسانية سامية.
العلاقات:
أهمية العلاقات الاجتماعية: إن البوصلة النفسية في العلاقات يجب أن تكون متوازنة بين الاندماج مع الناس والاستقلالية عنهم وإن الإفراط في العزلة أو الاختلاط يمكن أن يؤدي إلى مشاكل نفسية واجتماعية، ولذلك من الأهمية التوازن في الحقوق والواجبات بحيث يجب أن يأخذ كل طرف حقوقه دون إغفال واجباته تجاه الآخرين، والعكس صحيح، حيث لا يجب التضحية بالحقوق الشخصية بشكل مفرط وهذا يبرز مفهوم “الميزان النفسي” في علم النفس الإسلامي، الذي يدعو إلى الاعتدال وعدم الانحراف يمينًا أو يسارًا في جميع جوانب الحياة.
مسألة القوة والضعف في العلاقات: يجب الحذر من الإفراط في الضعف الذي يؤدي إلى الكسر، أو القوة الزائدة التي قد تؤدي إلى إيذاء الآخرين حيث إن العديد من المشاكل النفسية ناشئة من العلاقات الخاطئة أو سوء التعامل معها، والكثير من المشاكل تنبع من الشخص نفسه وطريقته في إقامة العلاقات.
يجب أن يبدأ الشخص بنفسه عند محاولة حل مشكلات العلاقات بدلاً من انتظار تغيير الطرف الآخر و من المهم تعلم كيفية إقامة العلاقات بشكل متزن والتعامل مع الأذى بطريقة صحيحة، و لذلك تبرز عملية تطبيق القوانين الإسلامية في التعامل مع الآخرين مثل قاعدة “خذ العفو” التي تدعو إلى التسامح وعدم التدقيق الزائد على الناس، إن الإصرار على تغيير الطرف الآخر قد لا يكون فعالًا ومن المهم حماية النفس من الأذى و يجب الانتباه حتى لا نتحول إلى أشخاص يُعانون من الحساسية الزائدة في العلاقات و يضعون توقعات عالية جدًا على الآخرين مما يؤدي إلى خيبة أمل ومشاكل في العلاقات.
طبيعة العيش ونمط الحياة:
مفاهيم النجاح و السعادة وتعريفاتهم في الحياة المعاصرة: الغرب يعمل على رفع مستوى الرفاهية و الديموقراطية لرفع مستوى السعادة ولكن النجاح لا يقتصر فقط على الرفاهية المادية كما يُروّج له في “الحلم الأمريكي” حيث إن الرفاهية والتقدم في مجالات مثل الطب والعلاج النفسي لم تؤدِ إلى انخفاض في معدلات الأمراض النفسية، و من الملاحظ أن الضغوط النفسية قد زادت رغم الرفاهية المتزايدة، لذلك نجد الأجيال السابقة كانت أكثر رضاً رغم انخفاض مستويات الرفاهية لديهم حيث أن الحياة المعاصرة قد “سرقت” منا القدرة على الصبر والتحمل، وأدت إلى تعريفات خاطئة للسعادة ولذلك انتشر ما يسمى ب “علم نفس الكافيهات”، حيث يُصبح مصدر الصحة النفسية والراحة هو البحث عن المتعة واللذة الجسدية و هذا النوع من السعادة يكون سريع الاشتعال والانطفاء ويمكن أن يؤدي إلى الإدمان.
والتعريف الصحيح للسعادة يعتمد على التنوع في مصادر هذه السعادة حيث يشمل السعادة الروحية والمعنوية والاجتماعية والأخلاقية بالإضافة إلى قدر معتدل من السعادة الجسدية والمادية، ومن الضرورة تحقيق التوازن في مصادر السعادة للحصول على حياة متكاملة ومرضية، إن النموذج الغربي للرفاهية لم ينجح في تحقيق السعادة الحقيقية ولذلك يمكن للرفاهية المادية الزائدة أن تؤدي إلى زيادة الضغوط النفسية وليس العكس.
إن النجاح لا يجب أن يُقاس بالمناصب العليا أو الثروة فقط، بل يجب أن يكون متعدد المصادر ويتناسب مع قدرات وإمكانيات كل شخص بدلاً من النظرة الضيقة للنجاح التي تروج لها دورات التطوير الذاتي والتي تجعل الناس يشعرون بالنقص إذا لم يحققوا معايير معينة ولذلك تبرز أهمية التوازن والرضا في جوانب الأمومة والزواج والتربية وعدم الانسياق وراء توقعات غير واقعية تنتج عنها، و نأخذ كمثال الضغوط التي يواجهها الأبناء بسبب توقعات الآباء العالية للتفوق الدراسي، حيث أن النجاح الدراسي ليس المقياس الوحيد لنجاح الأبناء وأن الضغط المفرط لتحقيق درجات عالية يمكن أن يكون له تأثير سلبي.
هنالك اتجاه سائد في علم النفس الغربي من خلال التنمية البشرية و التمركز حول الذات و هذه محاولة الغرب للهروب من الدين بسبب التجارب السابقة و إيجاد بديل من خلال التمحور حول الذات، إن تدليع النفس هو خيار ثقافي غربي و ليس نتاج دراسات علمية أثبتت صحتها، و هي تدفع باستغناء العبد عن الله من خلال أنت قادر و تستطيع، وسبب انجذاب الجيل الحالي إلى قانون الجذب و خلافه هو البحث عن حلول سريعة و سهلة ، حيث أن علم النفس الغربي السلوكي و المعرفي و كذلك علم النفس الإسلامي يحتاج إلى عمل و جهد مثل مجاهدة النفس و تنمية الصفات الأساسية في باب الصبر و التحمل و الجلد و كذلك الصفات الأساسية في باب الرضا و الحمد و الشكر و القناعة ، و كذلك الشجاعة و القوة و الإتقان و ليس الكمالية.
التعامل مع الأزمات والشدائد:
من المهم البحث عن مصادر متنوعة للقوة والدعم في مواجهة الأزمات النفسية بدلاً من الاعتماد على حلول سريعة وغير فعالة، و يجب أن يكون تعريفنا أوسع وأكثر توازنًا للنجاح والسعادة مع التركيز على الرضا والقناعة والتوازن بدلاً من السعي الدائم وراء الإنجازات المادية والمراكز العليا، و لنأخذ كمثال موضوع النجاح والتربية حيث يجب التركيز على التشجيع والتحفيز للأبناء بدلاً من الضغط والشدة مع ضرورة توفير بيئة سليمة وهادئة للتعلم وتجنب الحروب المستمرة والغلظة في التعامل مع الأبناء التي قد تؤدي إلى انهيار نفسي للأم أو الأب، و لذلك يجب التركيز على النجاحات المتعددة وليس فقط النجاح الأكاديمي و أهمية الجوانب الأخلاقية والنفسية والدينية في تربية الأبناء بحيث يكون النجاح متعدد الأبعاد وأن يتعلم الأبناء من الآباء أن النجاح لا يقتصر على الدرجات العالية، كما يجب أن نسأل أنفسنا: هل نلجأ إلى دورات التنمية البشرية الملوثة؟ أو إلى التوازن بين العقل والروح؟ النفس والجسد؟ القلب والعقل؟
المراجع:
محاضرات اليوتيوب:
- “البوصلة النفسية” للدكتور خالد بن حمد الجابر ، جزاه الله خيراً
- “بناء القوة النفسية” للدكتور خالد بن حمد الجابر ، جزاه الله خيراً